القول في تأويل { بسم} قال أبو جعفر : إن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه , أدب نبيه محمدا بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله , وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته , وجعل ما أدبه به من ذلك وعلمه إياه منه لجميع خلقه سنة يستنون بها , وسبيلا يتبعونه عليها , في افتتاح أوائل منطقهم وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم ; حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل { بسم الله } على من بطن من مراده الذي هو محذوف . وذلك أن الباء من " بسم الله " مقتضية فعلا يكون لها جالبا , ولا فعل معها ظاهر , فأغنت سامع القائل " بسم الله " معرفته بمراد قائله من إظهار قائل ذلك مراده قولا , إذ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرا قد أحضر منطقه به , إما معه وإما قبله بلا فصل , ما قد أغنى سامعه من دلالة شاهدة على الذي من أجله افتتح قيله به . فصار استغناء سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه , نظير استغنائه إذا سمع قائلا قيل له : ما أكلت اليوم ؟ فقال , طعاما , عن أن يكرر المسئول مع قوله " طعاما " أكلت ; لما قد ظهر لديه من الدلالة على أن ذلك معناه بتقدم مسألة السائل إياه عما أكل . فمعقول إذا أن قول القائل إذا قال : " بسم الله الرحمن الرحيم " ثم افتتح تاليا سورة , أن إتباعه " بسم الله الرحمن الرحيم " تلاوة السورة , ينبئ عن معنى قوله : " بسم الله الرحمن الرحيم " ومفهوم به أنه مريد بذلك أقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " وكذلك قوله : " بسم الله " عند نهوضه للقيام أو عند قعوده وسائر أفعاله , ينبئ عن معنى مراده بقوله " بسم الله " , وأنه أراد بقيله " بسم الله " : أقوم بسم الله , وأقعد بسم الله ; وكذلك سائر الأفعال . وهذا الذي قلنا في تأويل ذلك , هو معنى قول ابن عباس , الذي : 114 - حدثنا به أبو كريب , قال : حدثنا عثمان بن سعيد , قال : حدثنا بشر بن عمارة , قال : حدثنا أبو روق , عن الضحاك , عن عبد الله بن عباس , قال : إن أول ما نزل به جبريل على محمد , قال : يا محمد , قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ! ثم قال : قل بسم الله الرحمن الرحيم ! قال : قال له جبريل : قل بسم الله يا محمد . يقول : اقرأ بذكر الله ربك , وقم واقعد بذكر الله . قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فإن كان تأويل قوله " بسم الله " ما وصفت , والجالب " الباء " في " بسم الله " ما ذكرت , فكيف قيل " بسم الله " , بمعنى " أقرأ بسم الله " أو " أقوم أو أقعد بسم الله " ؟ وقد علمت أن كل قارئ كتاب الله , فبعون الله وتوفيقه قراءته , وأن كل قائم أو قاعد أو فاعل فعلا , فبالله قيامه وقعوده وفعله ؟ وهلا إذا كان ذلك كذلك , قيل : " بالله الرحمن الرحيم " , ولم يقل " بسم الله " ! فإن قول القائل : أقوم وأقعد بالله الرحمن الرحيم , أو أقرأ بالله , أوضح معنى لسامعه من قوله " بسم الله " , إذ كان قوله أقوم وأقعد بسم الله , يوهم سامعه أن قيامه وقعوده بمعنى غير الله . قيل له : إن المقصود إليه من معنى ذلك , غير ما توهمته في نفسك. وإنما معنى قوله " بسم الله " : أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء , أو أقرأ بتسمية الله , أو أقوم وأقعد بتسمية الله وذكره ; لا أنه يعني بقيله " بسم الله " : أقوم بالله , أو أقرأ بالله ; فيكون قول القائل : " أقرأ بالله " , و " أقوم وأقعد بالله " , أولى بوجه الصواب في ذلك من قوله " بسم الله " . فإن قال : فإن كان الأمر في ذلك على ما وصفت , فكيف قيل " بسم الله " وقد علمت أن الاسم اسم , وأن التسمية مصدر من قولك سميت ؟ . قيل : إن العرب قد تخرج المصادر مبهمة على أسماء مختلفة , كقولهم : أكرمت فلانا كرامة , وإنما بناء مصدر " أفعلت " إذا أخرج على فعله : " الإفعال " , وكقولهم : أهنت فلانا هوانا , وكلمته كلاما . وبناء مصدر " فعلت " التفعيل , ومن ذلك قول الشاعر : أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا يريد : إعطائك. ومنه قول الآخر : وإن كان هذا البخل منك سجية لقد كنت في طولي رجاءك أشعبا يريد : في إطالتي رجاءك. ومنه قول الآخر : أظلوم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم يريد إصابتكم . والشواهد في هذا المعنى تكثر , وفيما ذكرنا كفاية , لمن وفق لفهمه . فإذا كان الأمر على ما وصفنا من إخراج العرب مصادر الأفعال على غير بناء أفعالها كثيرا , وكان تصديرها إياها على مخارج الأسماء موجودا فاشيا , تبين بذلك صواب ما قلنا من التأويل في قول القائل : " بسم الله " , أن معناه في ذلك عند ابتدائه في فعل أو قول : أبدأ بتسمية الله , قبل فعلي , أو قبل قولي . وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن : " بسم الله الرحمن الرحيم " إنما معناه : أقرأ مبتدئا بتسمية الله , أو أبتدئ قراءتي بتسمية الله فجعل الاسم مكان التسمية , كما جعل الكلام مكان التكليم , والعطاء مكان الإعطاء . وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك , روي الخبر عن عبد الله بن عباس. 115 - حدثنا أبو كريب , قال : حدثنا عثمان بن سعيد , قال : حدثنا بشر بن عمارة , قال : حدثنا أبو روق عن الضحاك , عن عبد الله بن عباس , قال : أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم , قال : يا محمد , قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ! ثم قال : قل بسم الله الرحمن الرحيم . قال ابن عباس : " بسم الله " , يقول له جبريل : يا محمد ! اقرأ بذكر الله ربك , وقم واقعد بذكر الله وهذا التأويل من ابن عباس ينبئ عن صحة ما قلنا - من أنه يراد بقول القائل مفتتحا قراءته : " بسم الله الرحمن الرحيم " : أقرأ بتسمية الله وذكره , وأفتتح القراءة بتسمية الله , بأسمائه الحسنى , وصفاته العلى - وفساد قول من زعم أن معنى ذلك من قائله : بالله الرحمن الرحيم في كل شيء , مع أن العباد إنما أمروا أن يبتدئوا عند فواتح أمورهم بتسمية الله لا بالخبر عن عظمته وصفاته , كالذي أمروا به من التسمية على الذبائح والصيد , وعند المطعم والمشرب , وسائر أفعالهم , وكذلك الذي أمروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنزيل الله وصدور رسائلهم وكتبهم. ولا خلاف بين الجميع من علماء الأمة , أن قائلا لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام : " بالله " , ولم يقل " بسم الله " , أنه مخالف بتركه قيل " بسم الله " ما سن له عند التذكية من القول. وقد علم بذلك أنه لم يرد بقوله " بسم الله " , " بالله " كما قال الزاعم أن اسم الله في قول الله : " بسم الله الرحمن الرحيم " , هو الله ; لأن ذلك لو كان كما زعم , لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبيحته " بالله " قائلا ما سن له من القول على الذبيحة . وفي إجماع الجميع على أن قائل ذلك تارك ما سن له من القول على ذبيحته , إذ لم يقل وبسم الله " , دليل واضح على فساد ما ادعى من التأويل في قول القائل " بسم الله " وأنه مراد به بالله , وأن اسم الله هو الله. وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في الإبانة عن الاسم , أهو المسمى أم غيره أم هو صفة له ؟ فنطيل الكتاب به , وإنما هو موضع من مواضع الإبانة عن الاسم المضاف إلى الله , أهو اسم أم مصدر بمعنى التسمية ؟ فإن قال قائل : فما أنت قائل في بيت لبيد بن ربيعة : إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر فقد تأوله مقدم في العلم بلغة العرب , أنه معني به : ثم السلام عليكما , وأن اسم السلام هو السلام . قيل له : لو جاز ذلك وصح تأويله فيه على ما تأول , لجاز أن يقال : رأيت اسم زيد , وأكلت اسم الطعام , وشربت اسم الشراب . وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويل من تأول قول لبيد : " ثم اسم السلام عليكما " , أنه أراد : ثم السلام عليكما , وادعائه أن إدخال الاسم في ذلك وإضافته إلى السلام إنما جاز , إذا كان اسم المسمى هو المسمى بعينه. ويسأل القائلون قول من حكينا قوله هذا , فيقال لهم : أتستجيزون في العربية أن يقال أكلت اسم العسل , يعني بذلك أكلت العسل , كما جاز عندكم اسم السلام عليك , وأنتم تريدون السلام عليك ؟ فإن قالوا : نعم ! خرجوا من لسان العرب , وأجازوا في لغتها ما تخطئه جميع العرب في لغتها . وإن قالوا : لا ! سئلوا الفرق بينهما , فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا ألزموا في الآخر مثله. فإن قال لنا قائل : فما معنى قول لبيد هذا عندك ؟ قيل له : يحتمل ذلك وجهين , كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله . أحدهما : أن " السلام " اسم من أسماء الله ; فجائز أن يكون لبيد عنى بقوله : " ثم اسم السلام عليكما " : ثم الزما اسم الله وذكره بعد ذلك , ودعا ذكري والبكاء علي ; على وجه الإغراء. فرفع الاسم , إذ أخر الحرف الذي يأتي بمعنى الإغراء. وقد تفعل العرب ذلك إذا أخرت الإغراء وقدمت المغرى به , وإن كانت قد تنصب به وهو مؤخر . ومن ذلك قول الشاعر : يا أيها المائح دلوي دونكا إني رأيت الناس يحمدونكا فأغرى ب " دونك " , وهي مؤخرة ; وإنما معناه : دونك دلوي فذلك قول لبيد : إلى الحول ثم اسم السلام عليكما يعني : عليكما اسم السلام , أي : الزما ذكر الله , ودعا ذكري والوجد بي لأن من بكى حولا على امرئ ميت فقد اعتذر فهذا أحد وجهيه. والوجه الآخر منهما : ثم تسميتي الله عليكما , كما يقول القائل للشيء يراه فيعجبه : واسم الله عليك . يعوذه بذلك من السوء , فكأنه قال : ثم اسم الله عليكما من السوء . وكان الوجه الأول أشبه المعنيين بقول لبيد . ويقال لمن وجه بيت لبيد هذا إلى أن معناه : " ثم السلام عليكما " : أترى ما قلنا من هذين الوجهين جائزا , أو أحدهما , أو غير ما قلت فيه ؟ فإن قال : لا ! أبان مقداره من العلم بتصاريف وجوه كلام العرب , وأغنى خصمه عن مناظرته . وإن قال : بلى ! قيل له : فما برهانك على صحة ما ادعيت من التأويل أنه الصواب دون الذي ذكرت أنه محتمله من الوجه الذي يلزمنا تسليمه لك ؟ ولا سبيل إلى ذلك . وأما الخبر الذي : 116 - حدثنا به إسماعيل بن الفضل , قال : حدثنا إبراهيم بن العلاء بن الضحاك , قال : حدثنا إسماعيل بن عياش , عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي مليكة , عمن حدثه عن ابن مسعود , ومسعر بن كدام , عن عطية , عن أبي سعيد , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه , فقال له المعلم : اكتب بسم فقال له عيسى : وما بسم ؟ فقال له المعلم : ما أدري ! فقال عيسى : الباء : بهاء الله , والسين : سناؤه , والميم : مملكته. فأخشى أن يكون غلطا من المحدث , وأن يكون أراد : " ب س م " , على سبيل ما يعلم المبتدئ من الصبيان في الكتاب حروف أبي جاد . فغلط بذلك , فوصله فقال : " بسم " ; لأنه لا معنى لهذا التأويل إذا تلي " بسم الله الرحمن الرحيم " على ما يتلوه القارئ في كتاب الله , لاستحالة معناه على المفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها , إذا حمل تأويله على ذلك .